الشهيد القائد عبد القادر الحسيني(بطل معركة القسطل 1948)
قصة جهاد طويلة نقشت تفاصيلها الدقيقة في العقل والوجدان تماماً كما نقشت في الحجر فاستحال مهما طال الزمن نسيانه أو محوه من أجندة التاريخ الفلسطيني، هي حياة الشهيد عبد القادر الحسيني الذي كان واحداً من أولئك الصفوة الذين أبت الذاكرة مواراة أعمالهم وبطولاتهم مع مرور الأزمان وتغير الأماكن.
بدمائه الطاهرة روى أشجار الحرية في معركة القسطل التي استشهد عقب إصابته فيها بعدة رصاصات في الثامن من إبريل عام 1948 أما مسيرة جهاده فكانت على خطى الأب موسى كاظم بن سليم الحسيني الذي فتح بيته في حي الحسينية بالقدس ليكون ملاذاً آمناً للمجاهدين والمفكرين الوطنيين.
النشأة
في صيف عام 1908 أشرقت شمس القدس على ميلاد عبد القادر الحسيني، وراح يتلقى علمه في إحدى زواياها إلى أن انتقل إلى مدرسة "صهيون" الإنجليزية تلك المدرسة العصرية الوحيدة آنذاك، منذ طفولته اعتاد على تحمل المصاب الأليم ذلك أنه شب على فقد أمه بعد عامٍ ونصف من ولادته، إلا أنه لم يعان من حرمانه من الحنان والرعاية حيث احتضنته جدته لأمه مع بقية أشقائه السبعة، وهم ثلاث من الأخوات وأربعة صبية وهم فؤاد ويعمل مزارعاً ورفيق مهندساً وسامي مدرساً بالإضافة إلى فريد الذي عمل محامياً.
بعد حصوله على الشهادة الثانوية من مدرسة روضة المعارف التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت، ثم ما لبث أن طُرد منها نظراً لنشاطه الوطني ورفضه لأساليب التبشير التي كانت مستشرية في الجامعة، فما كان منه إلا الالتحاق بجامعة أخرى تسمح له بقدر من الحرية فتوجه إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة ودرس في قسم الكيمياء بها، وطيلة فترة دراسته لم يظاهر بنشاطه الوطني أملاً في الحصول على شهادة، وما إن تحقق مأربه حتى أعلن في حفل التخريج أن الجامعة لعنة بكل ما تبثه من أفكار وسموم في عقول الطالب، وطالب الحكومة المصرية أن تغلقها مما حدا بالجامعة الأمريكية في اليوم التالي بسحب شهادته، الأمر الذي أدى إلى تظاهرة عظيمة قام بها رابطة أعضاء الطلبة التي أسسها الحسيني وترأسها أيضاً وانتهى الأمر بقرار من حكومة إسماعيل صدقي بطرده من مصر فعاد أدراجه إلى القدس عام 1932 منتصراً لكرامته وحاملاً لشهادته التي أرادوا حرمانه منها.
جهاد في الوطن
لم تكن العودة إلى القدس نهاية الرجل بل إنها كانت بداية رحلة جهاد طويلة منذ العام 1935 وانتهاءً بعام 1948 في معركة القسطل الجهادية.. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة من جانب الإدارة البريطانية لضمه تحت جناحها من خلال توليته عدداً من المناصب الرفيعة إلا أن إيمانه بالجهاد المسلح من أجل الحرية والاستقلال كان أقوى من جميع إغراءاتهم وخططهم الدنيئة، وتأكد له صواب اعتقاده حينما رحل عز الدين القسام شهيداً مدافعاً عن حرية وطنه وأرضه فخطا على نفس دربه وراح منذ العام 1936 يعمل على تدريب شبان فلسطينيين لينظموا وحدات مسلحة تدافع عن حقها وأرضها إذا ما تعرضتا للهجوم من غزاة طغاة، وبالفعل في ذات العام قام عبد القادر الحسيني بإلقاء قنبلة على منزل سكرتير عام حكومة فلسطين تلتها قنبلة أخرى على المندوب السامي البريطاني وتوج نشاطه الوطني في هذا العام بعملية اغتيال الميجور سيكرست مدير بوليس القدس ومساعده، بالإضافة إلى اشتراكه مع أفراد الوحدات التنظيمية التي أسسها في مهاجمة القطارات الإنجليزية، وظلت هذه المناورات بصورة متفاوتة حتى عام 1939 حيث بلغت المقاومة ضد البريطانيين أشدها في معركة الخضر الشهيرة التي قضت بإصابة عبد القادر الحسيني إصابة بالغة.
وفي العراق أيضاً
لم يتمكن عبد القادر الحسيني من المكوث طويلاً في الأرض الفلسطينية خصوصاً بعد معركة الخضر وإصابته فيها مما دعاه إلى الانتقال إلى العراق ليس هرباً أو خوفاً وإنما لمواصلة الكفاح والجهاد في أي مكان ينتقل إليه ويشهد فيه ظلم المحتل الغاصب، ففي عام 1941 شارك الحسيني العراقيين في جهادهم ضد الإنجليز وتمكن برباطة جأشه أن يوقف تقدم القوات البريطانية لمدة عشرة أيام استبسل خلالها ورفاقه في المقاومة إلا أن فارق العتاد والقوة كان الحكم الأخير فاعتقل ورفاقه وقضوا في الأسر العراقي ثلاث سنوات، بعدها انتقل إلى دولة أخرى يكون فيها الظلم أقل والاحتلال متلاشياً فكانت المملكة العربية السعودية، مكث فيها من الزمن عامين فقط في ضيافة الملك عبد العزيز منذ عام 1944 حتى الفاتح من يناير عام 1964 بعدها انتقل إلى مصر..
مقاومة فلسطينية في مصر
عاد الحسيني في الفاتح من يناير عام 1946 إلى مصر الدولة التي سبق وأن طرد منها بأمر إسماعيل صدقي، ولكنه هذه المرة عاد للعرض على الأطباء ومداواة جروحه والندوب التي تقرحت في جسده إثر معاركه الكثيرة، وعلى الرغم من ذلك فقد كان الحسيني أكثر إيماناً ويقيناً أن المقاومة هي السبيل الأوحد للحرية والكرامة؛ فأثناء وجوده في مصر عمد إلى وضع خطة لإعداد المقاومة الفلسطينية ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي فراح ينظم عمليات التدريب والتسليح للمقاومين وأنشأ معسكراً سرياً بالتعاون مع قوى وطنية مصرية ليبية مشتركة بالقرب من الحدود المصرية الليبية، كما قام بتدريب عناصر مصرية أيضاً للقيام بأعمال فدائية، حيث شاركت عناصره في حملة المتطوعين بحرب فلسطين وكذلك في حرب القناة ضد بريطانيا، كما عمد إلى التواصل والتشابك مع قائد الهيئة العربية العليا ومفتي فلسطين "أمين" الحسيني من أجل تمويل خطته وتسهيل حركة المقاومين على كل جبهات فلسطين، كما عمد أيضاً إلى التنسيق والتواصل مع المشايخ والزعماء والقادة داخل الأراضي الفلسطينية، وأنشأ معملاً لإعداد المتفجرات إضافة إلى إقامته محطة إذاعية في منطقة رام الله درة عن المقاومة الفلسطينية وتشجيع المجاهدين على الجود بأنفسهم وقوتهم في سبيل نصرة الحق والحرية، ناهيك عن إنشائه محطة لاسلكية في مقر القيادة في بيرزيت وعمل شفرة اتصال تضمن لهم سرية المعلومات وعدم انتقالها إلى الأعداء عبر المراسلات العادية، كما قام الحسيني أيضاً بتجنيد فريق مخابرات مهمته فقط جمع المعلومات والبيانات وخفايا وأسرار العدو الإسرائيلي لضربه في عقر داره، ناهيك عن تكوينه لفرق الثأر التي طالما ردعت وأرهبت اليهود وقللت من عمليات القتل الممنهجة التي أذاقوها للفلسطينيين.
مجدد الجهاد في فلسطين
للوطن حنين، كيف لا وقد شهده يتجرع الويلات الواحدة تلو الأخرى وعلى الرغم من جهاده لفلسطين عن بعد إلا أن الأمر لم يشف ندوب صدره على الوطن وبخاصة بعد قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 حيث قضى اجتماع الجمعية العامة العادي بالخروج بقرار عن هيئة الأمم المتحدة يقضي بإنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، فتولى قيادة قطاع القدس وعمل على وقف زحف القوى اليهودية، ومن ثم قام بعمليات هجومية على قطعان المستوطنين المتواجدين في محيط المدينة المقدسة منها على سبيل المثال لا الحصر، معركة مقر القيادة العسكرية اليهودية في حي "سانهدريا"، بالإضافة إلى الهجوم المنظم على عدة مراكز يهودية كانت تعم بالأحياء العربية كـمقر "ميقور حاييم"، وصولاً إلى استبساله في معركة "صوريف" في السادس عشر من يناير عام 1948 والتي زفر فيها برقاب 50 يهودياً كانوا مزودين بأحدث العتاد الحربية الثقيلة فاستولى على 12 مدفع برن والعديد من الذخيرة والبنادق، وأيضاً من معاركه التي لا تنسى معركة بيت سوريك، ومعركة رام الله – اللطرون، بالإضافة إلى معركة النبي صموئيل، وكذلك الهجوم على مستعمرة النيفي يعقوب ومعركة بيت لحم الكبرى.
استشهاد الحسيني
ضرب عبد القادر الحسيني خلال معركة القسطل غير المتكافئة مثلاً رائعاً في التضحية والحماسة والاندفاع، وتفاصيل المعركة تدور كما دونها المؤرخون أن الحسيني غادر القدس إلى دمشق في أواخر آذار عام 1948 للاجتماع بقادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية، أملاً في الحصول على السلاح ليشد من عزم المقاومين على الاستمرار والاستبسال في القتال، إلا أنه ما لبث أن عاد إلى القدس مجدداً فور علمه بمعركة القسطل التي بدأت بشائرها وهو خارج القدس، لكنه لم يحمل ما ذهب إليه جميعه فقط نصف كيس من الرصاص، واتجه به مسرعاً إلى القسطل وهناك في السابع من نسيان من ذات العام عمد أولاً إلى إعادة ترتيب صفوف المجاهدين بدقة ونظام وكان هو في موقع القيادة وعلى الرغم من استبسال كل الجهات المقاومة في القتال إلا أن ضعف الذخيرة وقلتها أدت إلى وقوع الكثير من المجاهدين بين مصاب وشهيد، وهنا اندفع عبد القادر الحسيني لتنفيذ الموقف وقام باقتحام قرية القسطل مع عدد من المجاهدين إلا أنه ما لبث أن وقع ومجاهديه في طوق الصهاينة وتحت وطأة نيرانهم فهبت نجدات كبيرة إلى القسطل لإنقاذ الحسيني ورفاقه وكان من بينها حراس الحرم القدسي الشريف، وتمكن رشيد عريقات في ساعات الظهيرة من السيطرة على الموقف وأمر باقتحام القرية وبعد ثلاث ساعات تمكنوا من الهجوم وطرد الصهاينة منها ومن ثم فر من تبقى منهم بسيارات مصفحة إلى طريق يافا، غير أن المقاومين لم يكتفوا بذلك وأرادوا ملاحقة جموع الصهاينة الفارين غير أنهم عندما وجودوا جثمان الشهيد عبد القادر الحسيني ملقى على الأرض الأمر الذي كان له وقع أليم جداً على رفاقه وعلى الأمة جميعها إذ زلزل النبأ قلوب كل من عرفوه وعايشوه فكانت جنازته مهيبة أمها الجميع صغاراً وكباراً مقاومين وأناساً آخرين عرفوه إنساناً وطنياً مخلصاً لدينه ووطنه.
ولما خرج الجميع لتشييع عبد القادر الحسيني أبت قوات الاحتلال الصهيوني إلا أن ترتكب مجزرة أخرى فعمدت إلى مهاجمة قرية دير ياسين وأتت أُكلها فلم يبق فيها شيء ينبض بالحياة فقط ركام المنازل وأشلاء الفلسطينيين!.
منقول
رحم الله شهداء فلسطين الابرار ومن سار على